الجمعة، 12 ديسمبر 2014

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وسبب مدح الحطيئة بغيضاً وهجو الزّبرقان، هو ما ذكره الأصبهاني في الأغاني أن الزبرقان قدم على عمر، رضي الله عنه، في سنة مجدبة ليؤدّي صدقات قومه، فلقيه الحطيئة بقرقرى، ومعه ابناه أوس وسوادة، وبناته وامرأته، قال له الزبرقان - وقد عرفه، ولم يعرفه الحطيئة - : أين تريد؟ فقال: العراق، فقد حطمتنا هذه السنة! قال: وتصنع ماذا؟ قال: وددت أن أصادف بها رجلاً يكفيني مؤنة عيالي وأصفيه مدائحي! فقال له الزبرقان: قد أصبته، فهل لك فيه يوسعك تمراً ولبناً، ويجاورك أحسن جوار، قال: هذا وأبيك العيش، وما كنت أرجو هذا كله! عند من؟ قال: عندي. قال: ومن أنت؟ قال: الزبرقان. فسيّره إلى أمه - وهي عمّة الفرزدق - وكتب إليها: أن أحسني إليه وأكثري له من التمر واللبن.
وقال آخرون: بل سيذره إلى زوجته هنيدة بنت صعصعة المجاشعية، فأكرمته وأحسنت إليه؛ فبلغ ذلك بغيض بن عامر، من بني أنف الناقة، وكان ينازع الزبرقان الشرف، وكان الحطيئة دميماً سيئ الخلق فهان أمره عليها وقصّرت به؛ فأرسل إليه بغيض وإخوته: أن ائتنا. فأبى وقال: شأن النساء التقصير والغفلة، ولست بالذي أحمل على صاحبها ذنبها! وألحّوا عليه فقال: إن تركت وجفيت تحوّلت إليكم. وأطمعوه ووعدوه وعداً عظيماً، فدسّوا إلى زوجة الزبرقان أن الزبرقان يريد أن يتزوج ابنته مليكة - وكانت جميلة - فظهر منها جفوة.
وألحوا عليه في الطلب فارتحل إليهم، فضربوا له قبة، وربطوا بكلّ طنب من أطنابها حلّة هجريّة وأراحوا عليه إبلهم وأكثروا عليه التمر واللبن. فلما قدم الزبرقان سأل عنه، فأخبر بقصته؛ فنادى في بني بهدلة بن عوف وركب فرسه وأخذ رمحه، وسار حتى وقف على القريعيين، وقال: ردّوا عليّ جاري! قالوا: ما هو لك بجار، وقد اطّرحته وضيّعته! وكاد أن يقع بين الحيين حرب. فاجتمع أهل الحجا. وخيّروا الحطيئة فاختار بغيضاً؛ وجعل يمدح القريعيين من غير أن يهجو الزبرقان - وهم يحرّضونه على ذلك وهو يأبى - حتى أرسل الزبرقان إلى رجل من النمر بن قاسط، يقال له دثار بن شيبان، فهجا بغيضاً وفضّل الزبرقان، فقال من جملة أبيات:

وجدنا بيت بهدلة بن عوف ... تعالى سمكه ودجا الفناء
وما أضحى لشمّاس بن لاي ... قديم في الفعال ولا رباء
سوى أن الحطيئة قال قولاً ... فهذا من مقالته جزاء


ولما سمع الحطيئة هذا، ناضل عن بغيض وهجا الزبرقان، في عدة قصائد؛ منها قوله:

والله ما معشر لاموا امرأً جنباً ... من آل لأي بن شمّاس بأكياس
ما كان ذنب بغيض لا أبا لكم ... في بائس جاء يحدو آخر الناس
لقد مريتكم لو أن درّتكم ... يوماً يجيء بها مسحي وإبساسي
فما ملكت.. بأن كانت نفوسكم ... كفارك كرهت ثوبي وإلباسي
حتى إذا ما بدا لي غيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعت يأساً مبيناً من نوالكم ... ولن ترى طارداً للحرّ كالياس
ما كان ذنب بغيض أن رأى رجلاً ... ذا فاقة عاش في مستوعر شاس
جاراً لقوم أطالوا هون منزله ... وغادروه مقيماً بين أرماس
ملّوا قراه وهرّته كلابهم ... وجرذحوه بأنياب وأضراس

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس

ماكان ذنبي أن فلذت معاولكم ... من آل لأي صفاة أصلها راسي
قد ناضلوك فسلّوا من كنانتهم ... مجداً تليداً ونبلاً غير أنكاس


ولما بلغ الزبرقان هذا البيت استعدى عليه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فقال: ما أراه هجاك، ولكنه مدحك. فقال: سل حسان بن ثابت. فسأله؛ فقال حسان: هجاه وسلح عليه! فحبسه عمر؛ فقال وهو في الحبس:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر


ذو مرخ: اسم مكان؛ وأراد بالأفراخ أطفاله الصغار. وحمر الحواصل، يعني لا ريش لها

وتكلم فيه عمرو بن العاص؛ فأخرجه عمر، فقال: إياك وهجاء الناس! قال: إذاً يموت عيالي جوعاً! هذا مكسبي ومنه معاشي! وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أرسل عمر إلى الحطيئة - وأنا عنده؛ وقد كلمه عمرو بن العاص وغيره فأخرجه من السجن - فأنشده:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ

فبكى عمر ثم قال: علي بالكرسي؛ فجلس عليه، وقال: أشيروا علي في الشاعر، فإنه يقول الهجو ويشبب بالنساء وينسب بما ليس فيهم ويذمهم، ما أراني إلا قاطعاً لسانه! ثم قال: علي بطست؛ ثم قال: علي بالمخصف، علي بالسكين، بل علي بالموس! فقالوا: لا يعود يا أمير المؤمنين؛ وأشاروا عليه أن قل: لا أعود. فقال: لا أعود يا أمير المؤمنين.